النهر الكبير
تحرَّتْ قطراتُ المطر، من سجنِ الغيمةِ المظلم، وهبطنَ مسرعاتٍ نحوَ الأرض..
قالت قطرة:
- إنّها لفرحةٌ كبرى، أنْ نتحرّر من أسرِ الغيمة.
ردَّت قطرةٌ أخرى:
- وما يفيدنا ذلك، إذا كنا سنموتُ بعدَ لحظات؟!
قالت قطرةٌ ثالثة:
- إذا أردنا الحياة، فلا بدّ من الاتحاد.
أضاء الأملُ وجوهَ القطرات، وارتفعتْ منهنَّ أصواتُ التأييد:
- نحبُّ الحياة
- نكرهُ الموت
- نريدُ الاتحاد
- نريدُ الاتحاد
حينما لامستِ القطراتُ الأرضَ، أسرعَ بعضهنّ إلى بعض، تعانقنَ بوئام، تلاحمْنَ بوداد، فشكّلنَ نهراً دافقاً، ازدانَتْ ضفتاهُ بالأزهار.. هرعَ إليه الأطفالُ، وهتفوا معجبين:
- ما أجملَ هذا النهر!
صار النهرُ صديقَ الأطفال.. عندَهُ يلعبون، وفي مياهه يسبحون..
قالت قطرةٌ حمقاء:
- كم مرة سمعْتُ الأطفالَ يقولون: "ما أجملَ هذا النهر" أمّا نحنُ قطراتِ الماء، فلا يذكرنا أحدٌ، أفلا يعلمون أنْ لا قيمةَ لنهرٍ بغيرِ قطرات؟!
أجابتْ قطرةٌ ذكية:
- بل نحن يا صديقتي، لا قيمةَ لنا ولا حياةَ، لولا هذا النهرُ الذي يجمعنا
- لن يثنيني قولكِ هذا عمّا قرّرْت
- وماذا قرّرْتِ؟
- قرْرتُ الانفصال عن النهر
- لا تفعلي يا حبيبتي!
- لماذا؟
- أخافُ أنْ تموتي
- لن أموت
- الضعفاء - إذا تفرقوا - يموتون
- لستُ ضعيفة
- ما أشدّ غروركِ!
تشبّثت القطرةُ الحمقاء بعنادها، وصعدتْ إلى الضفة، فهبّتْ عليها ريحٌ عاتية، جرفتها في طريقها، وبدّدتها في الهواء..
وفي اليوم الثاني، حاولتْ قطرةٌ أخرى، الانفصال عن مياه النهر.. تسلّقتْ صخرةً على جانبه، فأحرقها حرّ الشمس، قبلَ أنْ تبلغَ الشاطئ..
وفي اليوم الثالث، انفصلتْ قطرةٌ جديدة، وعندما صارت على الشاطئ، مرّ بها حمارٌ مسرعٌ، فداسها بحافرٍ صلبٍ، ومضى لا يلوي على شيء.. بعد ذلك..
أدركتِ القطراتُ جيداً، أنْ لا حياةَ لهنّ إلاّ بالاتحاد، ولم تحاولْ قطرةٌ أخرى، الانفصال عنِ النهرِ الكبير.