تصر وسائل الإعلام الصهيونية وما ينجرف وراءها من وسائل إعلام عالمية وأحيانا باحثين على تشويه التاريخ وتحريفه حتى يتلاءم مع المخططات الصهيونية الاستعمارية لأرض فلسطين، ومن هنا تنبع أهمية نتائج أحدث بحث مصرى ويكشف أن اليهود خرجوا طوعا من فلسطين فى العصور القديمة ولم تكن هجرتهم منها بسبب طرد جماعى أو ظروف قهرية فقط. البحث المهم حصل به منذ أيام الباحث هانى عبدالعزيز على درجة الدكتوراه من جامعة عين شمس كلية الآداب قسم اللغة العبرية وذلك فى إطار الدور الوطنى الذى يلعبه القسم على المستوى البحثى فى مواجهة المزاعم الإسرائيلية. وقد أشرف على البحث الأستاذ الدكتور رشاد الشامى المؤلف الموسوعى وصاحب الرقم القياسى فى الإشراف على الدراسات والرسائل، والدكتور عبدالله رمزى المدرس بكلية الآداب جامعة عين شمس. د. هانى أكد فى مقدمة بحثه أن العقيدة اليهودية خلقت، فى تدوينها لتاريخها، علاقة محورية بينها وبين أرض فلسطين، بحيث أصبح وجودهم فيها مرهونا بالتزامهم بشرائع ربهم ووصاياه، وأصبح ما يسمى المنفى أو الجالوت بمثابة عقاب لهم على تنكرهم لها وابتعادهم عنها، وأصبحت هذه القاعدة العقدية هى التى يتم تفسير تاريخ هؤلاء اليهود وفقا لها، فى علاقتهم بفلسطين. وأكد أيضا أن البحث الذى يتناول خروج اليهود من فلسطين فى العصور القديمة، لا يبحث هذا الخروج من هذه الزاوية الإيمانية والتى تمتلئ بها أسفار الأنبياء، ولكنه يتناولها من خلال وقائعها المادية: السياسية، والدينية والاقتصادية والاجتماعية كذلك. وإذا كان الخروج، اسما ومصطلحا، يقترن فى العقيدة اليهودية، بواقعة خروج بنى إسرائيل من مصر، وهو خروج يشير عقيديا إلى التحرر من العبودية، فإن خروج اليهود من فلسطين، وفقا لهذا المعيار، يعتبر خروجا إلى العبودية، إلى أرض الجوييم الأغيار غير اليهود، عن عمد وعن قصد، هجرا وتركا ومغادرة طوعية، لما يسمى أرض الميعاد، وهذا هو موضوع البحث الذى يتناول خروج اليهود من فلسطين فى العصور القديمة، ونعنى بها الفترة الآشورية البابلية، والفترة اليونانية، والرومانية، أى منذ القرن السادس ق.م، وحتى القرن الثانى الميلادى. هذا ولم يكن اليهود وحدهم هم المقيمون فى فلسطين إبان العهود الفارسية، واليونانية، والرومانية، بل كانت هناك شعوب كثيرة تشاركهم فى الإقامة فى فلسطين سواء من رعايا الدولتين اليونانية والرومانية، أو من أبناء المنطقة الممثلين لثقافات وأديان أخرى غير يهودية، وكان الجميع يعيش فى فلسطين ضمن منظومة النظم التى وضعتها هذه الامبراطوريات لحياة رعاياها فى إطار من الحكم الذاتى وحرية العبادة. كما يجدر التنويه إلى أن اليهود فى فلسطين دونا عن سائر الرعايا الآخرين، كانوا يقومون من حين لآخر بتمردات وثورات تؤلب عليهم القوى العسكرية لهذه الامبراطوريات سعيا نحو استتباب الأمن ووأد هذه الثورات التى كانت فى غالب الأحيان ممثلة لتيار من دعاة الاستقلالية الدينية حينا والقومية حينا آخر، ولكنها لقيت كلها مصيرا واحدا، وهو القضاء عليها، واجتثاث الوجود اليهودى فى فلسطين، كما حدث فى عام 70 م، ثم فى عام 135 م الأمر الذى جعل يهودا وما حولها مناطق غير آمنة لإقامة عامة اليهود وخاصتهم فهجروها. كانت فلسطين إبان هذه المراحل تشكل مركز طرد وليس مركز جذب، أو بمعنى آخر مركزا للخروج منها وليس للدخول إليها أو الهجرة إليها، مما خلق وجودا يهوديا كثيفا خارج فلسطين عبر هذه الصور، فاق فى عدده، كما أوضح البحث، أضعافا كثيرة من أعداد اليهود المقيمين فى فلسطين، وهو ما أدى إلى تثبيت تلك الظاهرة التى عرفت باسم الشتات اليهودى كظاهرة ظلت ملازمة للوجود اليهودى عبر التاريخ فى العالم، وهو أمر كان ينطوى فى أحيانا على علاقة بين مركز الطرد ومركز الجذب، وفى أحيان كثيرة على انقطاع تام لهذه العلاقة، بحيث يمكن القول إن غالبا ما كان يحدث لمثل هذا الوجود اليهودى نوع من الاندماج الاجتماعى والثقافى واللغوى فى هذه المراكز الشتاتية، فى صورة انقطاع أو انفصال تام عن فلسطين التى لم يفكروا فى العودة إليها أبدا، إلا مع ظهور الصهيونية فى العصر الحديث. وقد توصل الباحث لعدة نتائج من أهمها أن مصطلح خروج يكاد يكون قاصرا فى استخداماته على الإشارة إلى الخروج من مصر، كما أن مصطلح منفى لم يرد فى أسفار العهد القديم، كمعنى أو مبنى قبل سفر الملوك الثانى 27/25، وأن عوامل الخروج اليهودى من فلسطين خلال عصور الدراسة الآشورى والبابلى، واليونانى والرومانى، خضعت دائما لمجموعة من العوامل السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية كانت على نحو التالى: فى العصرين الآشورى والبابلي كانت الأوضاع السياسية عاملا مهما من عوامل خروج اليهود من فلسطين، وقد تمثل هذا العامل فى السياسة الداخلية والخارجية لكل من مملكتى يهودا والسامرة. فعلى مستوى السياسة الداخلية، شهدت المملكتان صراعا مضنيا على السلطة، سواء للسيطرة على السلطة الداخلية، أو للهيمنة من جانب مملكة على الأخرى. وفى العصر اليوناني ازدادت عمليات الخروج اليهودى من فلسطين أثناء عمليات التحول السياسى، ثم تصاعد معدل الخروج اليهودى من فلسطين بشكل ملحوظ، بعد نجاح التمرد المكابى فى الاستقلال بيهودا عن المملكة السلوقية. وفى العصر الرومانى شهدت فلسطين فترات شديدة التوتر، سواء فى عهد أسر هيرود، أو فى فترتى الولاة الأولى والثانية، وازداد الخضوع عن طريق أفراد تلك الأسرة ذات الأصل الأدومى، كما شهدت هذه الفترة الكثير من أعمال التمرد والشغب والرشوة والفساد. ومجمل القول إن هناك عوامل متعددة، سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية تضافرت معا لتشكل منظومة الخروج اليهودى من فلسطين إلى جهات شتى خلال عصور الدراسة. ويرجح الباحث غلبة العامل الاقتصادى على العوامل الأخرى، فالوضع الاقتصادى للمجتمع هو الذى يحدد صور نظامه ودرجة حضارته وثقافته، وكأن الإنتاج المادى لأى جماعة هو الذى يحدد مفهوم نظامها الاجتماعى والسياسى، كما أن كل ما يلحق بالمجتمع سواء ثورات أو انقلابات سببه الأساسى أوضاع العمل والإنتاج والملكية الاقتصادية، وأن النظام السياسى القوى يقوم فى الأساس على نظام اقتصادى راسخ ومتين، أى أن العامل الاقتصادى هو العامل المؤثر الذى يحرك العامل السياسى ويتحكم فيه.