دار المدار
هذه حارتنا الصغيرة، هذه حارة النحّاسين، وهذا أنا أقف عند التلّة هناك، أنتظر رفاقي وأصدقائي، أدلك كفيّ وأنتظر، فالُّلعبةُ لابدّ أن تبدأ، وها هوذا حسام وأحمد وسمير وبشار قد جاؤوا، إنهم يركضون نحوي، تتشابك أيادينا، تتعانق أصابعنا المنمنمة، تطفح وجوهنا المدوّرة بالمحبّة، تتألّق عيوننا، وتنطلق أصواتنا، وها نحن نمارس لعبتنا المفضّلة نندفع إلى الّلعب ونحن لانعرف التعب، ولعبتنا المفضّلة العجيبة سميناها" دار المدار"، وهي ليست عجيبة فقط، بل خطرة أيضاً، لأنها لاتخلو من متعة، وهي أيضاً لاتخلو من قسوة وخشونة وعنف!..
كلّ طفل يضع حزامه الجلديّ في وسط الساحة التي نلعب فيها ، ومَنْ يقع عليه الدّورُ يمسك بطرف حبلٍ مثبّت في الأرض بوتدٍ، ويدور ضمن دائرة ضيّقة، يحمي أحزمته الجلديّة، والأطفال ينهشون أطراف الدائرة، كلّ واحد يريد أن يستردّ حزامه، وندور، ندور، الساحة كلّها تدور، التلّة نفسها تدور، ترتفع صيحاتنا ، وتشقّ اصواتنا عنان السماء، تظهر رشاقتنا في القفز والشقلبة تزداد سرعتنا ونحن نهتف:
- دارَ المدارُ.. دَارْ..
الحارة كلُّها، بأولادها وأطفالها عند التلّة يتحلّقون، واللعبة حامية، والمعركة بدأت ، ونحن نلهث وراء الفرح، تتواثب قلوبنا في صدورنا، وهتافُنا لايتوقّف:
- دَارْ.. دَارْ .. دَارْ..
و.. وقع الدّور عليّ، في إحدى المرّات، وجدت نفسي وسط الساحة ، تحت أعين الأطفال جميعاً في موقع المواجهة، وأنا أحمي الأحزمة، يدي الصغيرة ممسكة بالحبل، وعيناي تدوران في كلّ اتجاه، والأيدي ايدي رفاقي بدأت تنوشني من كلّ طرف، والّلعبة بدأت ، وعليّ أن أثبتَ وأُظْهِرَ مَقْدرتَي في هذه الّلُعْبةِ الخَطِرةِ...
المعركةُ دارت، والحارة كلّها عرفت أنني في منطقة الخطر، قلبي يكاد يقفز في صدري، كيف أدفع هذه الأيدي؟ كيف أصمد أمام هجمات الأطفال من حولي؟ كيف يمكنني أن أردّها عن انتزاع الأحزمة؟ يالها من لحظات صعبة!.. لكنّني كنت أدور وسط هتافات الأطفال، العالية، أدور.. وأدور، أحمي الأحزمة، وأصدّ الهجوم، لقد سقطت ، هذه المرّة، في الشبكة، سقطت مثل عصفور صغير، الدائرة بدأت تضيق من حولي ، ياإلهي!.. لقد خطف أحد الأطفال حزامه، إنه يلوّح به فوق رأسه، دخلتِ الّلعبةُ، الآن، مرحلةً صَعبةً.. أنّ الحزام سيطير باتجاهي، ولابدّ من أن أتلقّى لسعاته السريعة الخاطفة بقلب شجاع ونفس راضية، وأن أدافع عن بقية الأحزمة!..
يالها من لعبة عنيفة! كنت أصغر من أن أتحمّلها.. تصوّروا.. إنني طفل بطول عقلة الإصبع، يلعب لعبة" دارَ المدار"، ويقف ليستقبل الحزام الجلديّ يلسعه لسعاً لاهباً على ظهره أو كتفه أوساقه.. ربّما تطول اللعبة، ربّما تصير الأحزمة كلُّها في أيدي الأطفال، فماذا تكون النتيجة؟...أيّ " فلقة" ساخنة ستكون من نصيبي؟ ها أنذا أدور وعيناي زائغتان والصّخب يتعاظم من حولي ، والضجيج يملأ فضاء الساحة..
ومن راس الحارة، أطلّ وجه أمي..
كنت أراها هناك. عيناها تبحثان عن ولد صغير شقيّ، ولد بطول " عقلة الإصبع"، لم يكن هذا الولد سواي، لقد رأتني مباشرة، وشعرت عندئذ أنني أقوى من الجميع، شعرت بأنّ قوّة هائلة تدفعني إلى أن أصمد وأن أقاوم الهجمات العنيفة، وأن أزداد تصميماً على حماية الأحزمة، والدائرة ، والسّاحة والتلّة، بل الحارة كلّها!..
كنت أدور، هذه المرة، بسرعة أكبر، لم تعد لسعات أيّ حزام تهمّني، لم أكن أتألّم، قوّتي صارت خارقة، ,أنا أستهين بكلّ هجوم، وتقدّمت أمّي، اقتربت أكثر، وبدون انتظار، انفرط عقد الأطفال من حولي، تفرّقوا مبتعدين، وهم يرون أمّي قد وقفت في ساحة اللعب صامتة، كانت تنظر إليّ وحدي، كأنّما تؤنّبني بصمتها، تلومني على لعبي الأحمق!..
توقّفت الأيدي عن المناوشة، خفتت الأصوات ثم ساد هدوء، أشارت إليّ أن أقترب، اترك هذه الّلعبة السخيفة، وعد إلى البيت!..
تعثّرت في خطواتي، هذا أنا أنسحب من اللعبة، وهذه أمي أنقذتني في اللحظة المناسبة، هل كنت فرحاً أم ماذا؟!
لقد نجوتُ .. حلّت أمي المشكلة، ولن أصير أضحوكة!
ما الذي قاله الأطفال في الحارة بعدئذ؟ لست أدري، لأنني انصرفت عن كلّ الألعاب السّخيفةِ وشُغلت بدروسي، صارت الكتب والدفاتر والأقلام أصدقائي، ومن وجه أمّي ، من ابتسامتها الحنون ومن عينيها الحلوتين الهادئتين، استلهم نجاحي وتفوّقي، ومن صوتها الدافئ، ودعائها الصّامت، أتابع عملي، وأسير سعيداً مطمئنّاً.. سَلمتِ ياأمي.. .....