الجَهَنَّمِيَّةُ... أو المَجْنُونَة
أعطتْ ملكة الزهُّورِ أَسْماءً لكُلِّ نوعٍ من الزُّهورِ التي تَمْلأ الغَابةَ القََديْمةَ...
كانت إحْدى الزّهرات الجميلة، غائبةً، ونَسِيَتْها الملكةُ أيضاً، فبقيت دون اسم تُعْرَف به بين النّباتات والزَّنابقِ والوُرود والزهور مدِّةً من الزَّمَن...
ولكنّها كانت زهرةً مهمّةً: يُمَيّزُها شكلها، وألوانُها، وحماسَتُها في استقبال أَيّام العام كُلّه...
وكانت هذه الزَّهَرةُ مَحْظُوظةً بين رفيقاتها في الغابة. جِسْمُها متينٌ، ووَرَقُها غَزيْرٌ، وزهَراتُها على الأغصانِ والفُروع كثيرةٌ جداً... وهي سَرِيْعَةُ النُّموُّ، قَوِيَّةُ التَّحَمُّلِ، صَعْبَةٌ على أكثِر الحَشَراتِ، وتقاوم الظروف الشديدة..
وهي نبتةُ تحبُّ الضَّوءَ، وتُحِبّ الشَّمْسَ، وتَنْموُ تَحْتَ أَشِعَّتها نموّاً كبيراً ويجدُها الناظر إليها مشرقةََ اللَّوْنِ دائماً، حُلْوَةَ المَنْظَرِ، كثيفةَ الزهر... لَيّنَةََ الأًغْصَان.
وهي رقيقةُ، جميلةٌ، حَسنةُ الصُّورةِ، مُرْهَفَةُ الإحساسِ، لطيفةُ، مألوفةُ..
إذا زُرِعَتْ عندَ بوًّابةِ المَنْزِل، أو الحديقة، ظَلَّلَتهُ، وأكْسَبَتْهُ جمالاً فائقاً، وإطلالة مُحَبَّبَةً.
وإذا زُرِعَتْ في مَمرٍّ عَرَّشَتْ فَوْقَهُ، وصارتْ أَشْبَهَ بأقواسٍ النَّصر..
تُلْقي كل يومٍ عشرات الأَزْهار على الأرض فكأَنَّها الدَّراهم والدَّنانير... وتعوّض ما نفضَتْه على أغصانها بأَزْهَارٍ ندية جديدةٍ...
بَمُنَاسَبِة عيدِ الزُّهور جَرى احْتِفَالَّ في الغَابةِ على شَرفِ مَلكةِ الزُّهور فظهرت كل نبتة مزهرةٍ، وكلّ شُجَيرةٍ وشجرةٍ ذات أنوار وأزهار في أحْسَنِ شَكْلٍ وأَبْهى حُلّة...
أمّا هذه النَّبْتَةُ الذكية، الرقيقةُ اللطيفة، فاستجمعت قواها للاشتراك في الاحتفال، وعملت ما لم تَعْمَلْهُ من قَبْلُ: فأكثرتْ من فُروعها وأغصانها في مدّةٍ قليلة، وزادتْ من إنتاج زَهَراتِهَا فظلّلت مكانَ الاحتفالِ وزَيَّنَتْهُ بألوانها الزّاهية اللطيفة حتى لفتَتْ إليها الأنظارَ، بل أثارتْ عَلَيها شيئاً من حَسدِ الحاسِدين كما نالَتْ إِعجابَ المُعْجِبينْ...
بعد أن عرفَتْ جاراتُ هذه الزّهرة مَزاياها، وخصائصها؛ وبعد أن شاهَدْنَ تدفُّقَها وحَيويّتَها في مناسبةِ الاحتفالِ بملكةِ الزُّهورِ: أطلقَ بعضُهُنَّ عليها صِفَة (المَجْنُونة)...بينما أطلق بعضهنّ الآخر صفة (الجَهَنَّمِيَّة) قال مَنْ سَمّاها بصفةِ "الَمْجُنونة" إنّها استحقَّتْها بسببِ:
ـ قُدْرِتَها على النُّموُّ السَّريع؛
ـ ولأنها كثيفةٌ مٌتَشابكة الأغصَان؛
ـ ولأنها كثيرةُ الأوراق غزيرةُ الأزهار؛
ـ ولأنّها فريدةٌ في هذه الصِّفاتِ من بينِ أَزاهيرِ الغابَةِ، وهي كثيرةٌ جدّاً...
... ... ...
وقال مَنْ لَقَّبها بالجهنّمِيَّة إنها استحقّتْ هذا اللّقبَ، أو تلكَ الصّفة:
ـ لأنّها تحبُّ الشَّمْسَ كثيراً، ولا تَتَأذّى بها؛
ـ ولأنَّها تعشَقُ النُّور ولا تبالي بأشعة الشمس القويّة
وقد شاعَتْ عنها هاتان الصّفتانِ، أو اللّقبانِ، ومع مُرور الأَيّام صَارا كالاسْمَيْنِ.
... ولما عاتبت بعضُ الأزاهير مَنْ لقبِ تلك الزَّهرةِ بالمَجْنُونة والجَهَنّمِيّةِ كَان الجواب: نحن لا نريدُ إزعاجَها ولا الإساءَةَ إليها.. أليستْ هيَ كثيرةَ القُوّة والنَّشاط والتَّحمُّلِ للشمسِ وحَرارَتِها وأشِعَّتها؟ أليستْ أكْثَرنا عطاءً وأََغْزَرَنا زَهْراً؟...
..نَحْنُ لم نجد من الكلماتِ الدالّة عليها
أبلغَ من المَجْنُونِة والجَهَنّميِّةِ...
كانت الوردةُ الشاميّة تتحدّث على مسمع من تلك الزّهرة الذكية، وهي لا تدري أَنَّها تسمع، وتقول في وصفها والثناء عليها:
هذه الزّهرة اللطيفةُ الرقيقةُ فيها صفاتٌ حسنةٌ كثيرةٌ، فهي تُسْرِعُ في التًّعْرِيشِ على جُدرانِ المنَازلِ وفي الحدائقِ، والشًّوارعِ،وتُسْرعُ في نشرِ أزهارها المُلَوَّنة الجَميلة، وتُكثِرُ من تغطيةِ الأرض بأزهارِها ليكونَ الطّريقُ حقْاًَ مَفّرُوشاً بالأزاهير...
.. لقد صارتْ أشهر زَهْرَةٍ في الغابةِ.. وهي كريمةٌ أصيلةٌ.. لقد نالت رضى الجميع
قالت شجرَةُ البَيْلَسانِ وهي تَزْهُو بأزهارها الكبيرة المُسْتَديِرةِ: لماذا سَمَّوهْا إذن: المجنونَة و الجهنميّةَ؟...
وقعت عبارة شجرة البَيْلَسان في سمع تلك الزهرة الأنيقة وصرفت انتباهها عن الحوار بينها وبين الوردة الشاميّة وتساءلت: أهكذا أوصف عند أزاهير الغابة وورودها وأشجارها؟
ولمّا كانت تتحلّى بالأناة والصّبر وحُسْنِ التّدبير قصَدَتْ إلى ملكة الزُّهورِ في الغابةِ ورفعتْ إليها أَمْرهَا... وسألتها قبل أن تَبُتَّ في موضوع ألقابها: أَيّتها الملكة العظيمة! ما الاسم الذي سَمَّيْتنِي به؟ فكّرت الملكة لحظة، وتذكّرت أنها لم تُطلق عليها اسماًَ... نعم لقد فاتها ذلك، وغَلبَها في ذَلك المَوْقِفِ: النِّسْيَانُ..
قالت الملكة: يا عزيزتي! اَعْتَذِرُ إليك فَقَدْ نَسِيْتُ أَن أُسَمِّيَكِ وقد كنتِ أنتِ غائبةً أيْضاً، ولو حَضَرْتِ لَذَكَرْتُكِ!...
سكتت ملكة الزهور قليلاً، ثم التفتت إلى الزّهرة التي تبحث عن اسم؛ وقالت: اسمعي منّي ما أقول لك: أنت معروفة في هذه الغابة أكثر من أيّة زهَرة أُخرى وإن لم أُطْلِقْ عَليْكِ اسْماً.. وشيءٌ آخر: علمتُ أن مَنْ أَطلقَ عليك الاسْمَيْن لم يقصدْ إلى الإساءة .. لقد طلبوا وَصْفاً لك فلم يَهْتَدُوا ـ بحسب معلوماتهم وخبراتِهم ـ إلى غير هاتين الصّفتين...
كانت الزّهرة الذكية صامتةً وهي تستمع بإصغاء... قالت الملكة هل تسمعينني؟ قالت : نعم !... قالت الملكة:
سَمَّوْكِ المَجْنُونةَ بِسَبَبِ صفاتٍ حسنةٍ فيك،وقد أطْلَقَ العَرَبُ على النخلة هذا الاسم لأنها طويلة، شامخةٌ إلى الأعالي.. أفلا تَقْبَلِيْنَ أن تُشَبَّهِي بالنًّخْلَةِ ؟ وأن تَتّخذي اسْمَها ولَقَبها؟..
وسَمَّوْكِ بالجَهَنَّمِيّة لأَنّك تَحْتَمِليْنَ من الحَرّ وأشِعَّةِ الشًّمْسِ ما لا يُطِيْقُونَ مِثْلَهُ... وهذه مزيّةٌ اعْتَرفَ الجميع لك بها...
....
قابلت الزَّهْرَةُ الذّكيَّةُ كلامَ المَلِكَةِ بالسُّكُوْتِ والقَبُول... وعلمتْ أن لهذَيْنِ الاسْمَين للنَّبات مَزِيَّةً وفَضْلاً وخصوصيةً وتَمَيُّزاً...
قالت الملكةُ للزَّهرةِ الذِكيَّةِ التي اشتهرتْ بالمَجْنُوَنةِ والجَهَنّمِيَّةِ: إنّ مُكَاَفأَتَكِ على طبعك الحسَن وأخلاقك النبيلة أنك ستبقَيْنَ دائماًَ هكذا: قادرةً على الارتقاء والارتفاع والنمّو السريع.. وسوف تنتجين من الأزهار ـ باستمرار ـ ما لا يستطيعه أحدٌ كثرةً ولوناً وحُسْناً وجمالاً...
وستبقى أزهارك زاهية جميلةً رقيقةً... مادامت عليك، فإذا تخلّيت عنها لاستقبال الجديد، حملتها الريح ـ لأنها خفيفة لطيفة ـ وذهبت بها لتَزيّن الأرض.. وكل اتجاه تكونُ فيه..
... ....
قالت الملكة ـ قبل أن تودّع الزهرة الذكية التي غَلَبَ عليها اسم المجنَونَة،
والجَهَنّمِيَّةِ ـ :
وزيادة على ذلك فإنك ستمتازين عن غيرك بأن يصبح لديك القُدرة ـ دون تدخّل من أيّ مخلوق ـ لينبُتَ على الغصن الواحد منك أزهار بلونين اثنين معاً...
صفةٌ خاصّة بك من بَيْنِ جاراتك تزدادين بها جمالاً وغرابة وإشراقاً... وإذا حَسَدك أحد فلن يستطيع أن يسلب منك أية صفة أو مزيّةٍ أو مَلْمح جمال !.